فصل: تفسير الآية رقم (157)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما، والمراد به هنا الأول وإلا كانت أربعة‏.‏ وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام‏.‏ و‏{‏ثمانية‏}‏ على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين بدل من ‏{‏حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء‏.‏ وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على ‏{‏جنات‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ وحذف الفعل وحرف العطف، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى‏.‏ وأن يكون مفعولاً لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ جملة معترضة‏.‏ وأن يكون حالاً من ما مراداً بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بياناً للهيئة، وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقاً أو مؤولاً به ظاهر‏.‏ وتعقب ذلك شيخ الإسلام «بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولاً إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقولوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة» انتهى‏.‏ وفيه منع ظاهر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّنَ الضأن اثنين‏}‏ على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة‏.‏ ونصب ‏{‏اثنين‏}‏ قيل‏:‏ على أنه بدل من ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ بدل بعض من كل أو كل من كل إن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به‏.‏ وقال العلامة الثاني‏:‏ الظاهر أن ‏{‏مّنَ الضأن‏}‏ بدل من ‏{‏الانعام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ و‏{‏اثنين‏}‏ من ‏{‏حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ أو من ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ إن جوزنا أن يكون للبدل بدل، وجوز أن يكون البدل ‏{‏اثنين‏}‏ ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها‏.‏ وقرىء ‏{‏اثنان‏}‏ على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر، وقرىء بفتح الهمزة وهو لغة فيه‏.‏

‏{‏وَمِنَ المعز‏}‏ زوجين ‏{‏اثنين‏}‏ التيس والعنز‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏وَمِنْ‏}‏ وهو اسم جمع معز، وهذه الأزواج الأربعة على ما اختاره شيخ الإسلام تفصيل للفرش قال‏:‏ «ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها‏.‏ ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم عن الجواب ‏{‏ءآلذَّكَرَيْنِ‏}‏ ذكر الضأن وذكر المعز ‏{‏حَرَّمَ‏}‏ الله تعالى ‏{‏أَمِ الانثيين‏}‏ أي أنثى ذينك الصنفين، ونصب الذكرين والأنثيين بحرم ‏{‏أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين‏}‏ أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكراً كان أو أنثى‏.‏ ‏{‏نَبّئُونِي بِعِلْمٍ‏}‏ أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئاً مما ذكر أو نبئوني تنبئة متلبسة بعلم صادرة عنه ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الإنقطاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الإبل‏}‏ زوجين ‏{‏اثنين‏}‏ الجمل والناقة، وهذا عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنْ الضأن اثنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏ «والإبل كما قال الراغب يقع على البُعْران الكثيرة ولا واحد له من لفظه» ويجمع كما في «القاموس» على آبال والتصغير أُبَيْلة»‏.‏ ‏{‏وَمِنَ البقر اثنين‏}‏ هما الثور وأنثاه ‏{‏قُلْ‏}‏ إفحاماً لهم في أمر هذين النوعين أيضاً ‏{‏ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ‏}‏ الله تعالى منهما ‏{‏أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين‏}‏ من ذينك النوعين، والمعنى كما قال كثير من أجلة العلماء إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئاً من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ‏.‏ وبيانه على ما قال السكاكي أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال‏:‏ قل آلذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في ‏(‏التثنية و‏)‏ التكرير من المبالغة أيضاً في الإلزام والتبكيت‏.‏

ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا‏:‏ «إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكراً وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراماً، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراماً‏.‏ وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث‏.‏ وتعقبه بأنه بعيد جداً لأن لقائل أن يقول‏:‏ هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا‏:‏ إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل‏:‏ إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكراً وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى‏.‏

ولما لم يكن هذا الكلام لازماً علينا فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون»، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما‏.‏ ومن الناس من زعم أن المراد من الإثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبُخْتي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه، وقول الطبرسي‏:‏ «إنه المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه» كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء‏}‏ تكرير للإفحام والتبكيت، و‏(‏ أم‏)‏ منقطعة، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين ‏{‏إِذْ وصاكم الله‏}‏ أي أمركم وألزمكم ‏{‏بهذا‏}‏ التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولاً يخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه‏.‏ والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم‏.‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم، والمراد به على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى، وقيل‏:‏ كبراؤهم المقررون لذلك، وقيل‏:‏ الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى، والمراد فأي فريق أظلم ممن الخ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء‏.‏ ومن تابع عمراً من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمداً للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به، والفاء لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم، ونصب ‏{‏كَذِبًا‏}‏ قيل على المفعولية، وقيل‏:‏ على المصدرية من غير لفظ الفعل، وجعله حالاً أي كاذباً جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافاً لمن زعمه‏.‏

‏{‏لِيُضِلَّ الناس‏}‏ متعلق بالافتراء ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً من ضمير ‏(‏افترى‏)‏ أي افترى عليه سبحانه جاهلاً بصدور التحريم عنه جل شأنه، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذاناً بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور‏.‏ وجوز كونه حالاً من فاعل ‏(‏يضل ‏(‏على معنى متلبساً بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلاً بذلك غير عالم به، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه‏.‏

وجوز أن يكون الجار متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏الناس‏}‏ وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم‏.‏ واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم، وفيه أنه ليس كل ما كان مذموماً من الخلق كان مذموماً من الخالق‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ إلى طريق الحق، وقيل‏:‏ إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ إلى ما فيه صلاحهم عاجلاً وآجلاً وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ الخ كناية عن عدم الوجود، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى، وتنبيه كما قيل على أن الأصل في الأشياء الحل، و‏{‏مُحَرَّمًا‏}‏ صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني ‏{‏فِيمَا أُوحِىَ‏}‏ قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف، وليس المفعول الأول محذوفاً أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآناً وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى ‏{‏أُوحِىَ‏}‏ أو ما أوحي إليّ من القرآن طعاماً محرماً من المطاعم التي حرمتموها ‏{‏على طَاعِمٍ‏}‏ أي طاعم كان من ذكر أو أنثى رداً على قولهم‏:‏ ‏{‏مُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَطْعَمُهُ‏}‏ في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏طَائِرٍ يَطِيرُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ قطعاً للمجاز‏.‏ وقرىء ‏{‏يَطْعَمُهُ‏}‏ بالتشديد وكسر العين، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى، والمراد بالطعم تناول الغذاء، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضاً كما تقدم الكلام عليه، والمتبادر هنا الأول، وقد يراد به مطلق النفع، ومنه ما في حديث بدر «ما قتلنا أحداً به طعم ما قتلنا إلا عجازاً طلعاً» أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جداً ولم أر من قال به، نعم قيل‏:‏ المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم‏:‏ رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء ‏{‏يَطْعَمُهُ‏}‏ على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذٍ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه‏.‏

‏{‏إِلا أَن يَكُونَ‏}‏ ذلك الطعام أو الشيء المحرم ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ المراد بها ما لم يذبح ذبحاً شرعياً فيتناول المنخنقة ونحوها‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة ‏{‏تَكُونُ‏}‏ بالتاء لتأنيث الخبر، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ‏{‏يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ بالياء ورفع ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ وأبو جعفر يشدد أيضاً على أن كان هي التامة ‏{‏أَوْ دَمًا‏}‏ عطف على ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ أو على أن مع ما في حيزه‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّسْفُوحًا‏}‏ أي مصبوباً سائلاً كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال‏.‏

وفي الحديث ‏"‏ أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال ‏"‏ وقد رخص في دم العروق بعد الذبح، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء‏.‏ وعن عكرمة أنه قال‏:‏ لولا هذا القيد لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود‏.‏

‏{‏أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ‏}‏ أي اللحم كما قيل لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكراً‏.‏ وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى، وقيل وهو خلاف الظاهر‏:‏ الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور ‏{‏رِجْسٌ‏}‏ أي قذر أو خبيث مخبث ‏{‏أَوْ فِسْقًا‏}‏ عطف على ‏{‏لَحْمَ خِنزِيرٍ‏}‏ على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة ‏{‏أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ صفة له موضحة‏.‏ وأصل الإهلال رفع الصوت‏.‏ والمراد الذبح على اسم الأصنام‏.‏ وإنما سمي ذلك فسقاً لتوغله في الفسق‏.‏ وجوز أن يكون ‏(‏فسقاً‏)‏ مفعولاً له لأهل وهو عطف على ‏{‏يَكُونَ‏}‏ و‏{‏بِهِ‏}‏ قائم مقام الفاعل‏.‏ والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في ‏{‏يَكُونَ‏}‏‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ «وهذا إعراب متكلف جداً ‏(‏والنظم عليه‏)‏ خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ ‏{‏إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ بالرفع ‏(‏لأن‏)‏ ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف ‏(‏له موصوف‏)‏ محذوف يعود عليه الضمير ‏(‏أي‏)‏ شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر» اه‏.‏ وعنى بذلك كما قال الحلبي أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام من التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه من كان ضرورة كقوله‏:‏ ترمى بكفي كان من أرمى البشر *** أراد بكفي رجل كان الخ‏.‏ وهذا كما حقق في موضعه رأي بعض، وأما غيره فيقول‏:‏ متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقاً فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة كما قال السفاقسي فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ‏}‏ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله‏.‏ وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أي غير متناول للذة؛ وقال مجاهد‏:‏ غير باغ على إمام ‏{‏وَلاَ عَادٍ‏}‏ أي متجاوز قدر الضرورة ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك‏.‏

وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة‏.‏ وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلاً له ولا حاجة إليه‏.‏

ونصب ‏{‏غَيْرِ‏}‏ على أنه حال‏.‏ وكذا ما عطف عليه‏.‏ وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلاً من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقاً للمضطر الآخر‏.‏ وأما الحالة الثانية‏:‏ فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعاً فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة‏.‏ وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل‏.‏

واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة‏:‏ الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والفسق الذي أهل لغير الله تعالى به، ولا شك أنها أكثر من ذلك‏.‏ وأجيب بأن المعنى لا أجد محرماً مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه‏.‏ وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعاً أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة‏.‏ وهذا لا دلالة فيه على الحصر‏.‏ والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له‏.‏ فإن قلت‏:‏ المستثنى ليس ميتة بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعاً لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد‏.‏ قال القطب‏:‏ نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرماً إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلاً وورد الإشكال‏.‏ وضعف ذلك الجواب بأوجه‏.‏ منها أنه تعالى قال في سورة البقرة ‏(‏173‏)‏ وسورة النحل ‏(‏115‏)‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ وإنما تفيد الحصر، وقال سبحانه في سورة المائدة‏:‏ ‏(‏1‏)‏ ‏{‏أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة‏.‏ وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد‏.‏

وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرماً غير ما نص عليه فيها، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل‏:‏ وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغاً بمعنى لا أجد شيئاً من المطاعم محرماً في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرماً فالمصدر المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة‏.‏

واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافاً بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخاً‏.‏ ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلاً لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال‏:‏ إنه وإن كان ثابتاً إلا أنه زال2‏.‏

وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالاً لأنه معرفة وبعضهم قال لاتصال الاستثناء‏:‏ إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من ‏{‏مُحَرَّمًا‏}‏ وفيه تكلف ظاهر، وقيل‏:‏ التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة‏.‏

وأجيب أيضاً عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار‏.‏ وتعقبه الإمام أيضاً «بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز»‏.‏ وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر ههنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز‏.‏

وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية‏.‏ أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله‏:‏ أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال‏:‏ قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس وقرأ ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيرهم بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ الخ‏.‏

وأخرج عن ابن عباس قال‏:‏ ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه ‏{‏قُل لا أَجِدُ‏}‏ الآية، وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام «فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس؛ ثم قال‏:‏ ومن السؤالات الضعيفة أن كثيراً من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما استخبثته العرب فهو حرام ‏"‏ وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال‏:‏ ‏"‏ يعافه طبعي ‏"‏ ولم يكن ذلك سبباً لتحريمه‏.‏ وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئاً وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم» انتهى‏.‏ ولا يخفى ما فيه‏.‏

واستدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه ‏{‏على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ‏}‏ على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنما قال الله تعالى ‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ *إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه تنتفعوا به ‏"‏‏.‏ واستدل الشافعية بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ رِجْسٌ‏}‏ على نحاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ‏}‏ أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين ‏{‏حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والسدي، وعن ابن زيد أنه الإبل فقط، وقال الجبائي‏:‏ يدخل فيه كل السباع والكلام والسنانير وما يصطاد بظفره، وعن القتبي والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفراً مجازاً‏.‏ واستبعد ذلك الإمام، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراماً قبله‏.‏ ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة ‏{‏حَرَّمْنَا‏}‏ وهذا كما قيل تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون‏:‏ لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهما السلام حتى انتهى التحريم إلينا، وقال بعض المحققين‏:‏ إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضباً عليهم‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏ظُفُرٍ‏}‏ بكسر الظاء وسكون الفاء‏.‏ وقرأ أبو السماك بكسرهما‏.‏ وقرىء كما قال أبو البقاء ‏{‏ظُفُرٍ‏}‏ بضم الظاء وسكون الفاء‏.‏

‏{‏وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ لا لحومهما فإنها باقية على الحل، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى، وقيل‏:‏ هو عام استثني منه ما سيأتي‏.‏ و‏{‏مِنْ البقر‏}‏ متعلق بحرمنا بعده وكان يكفي حينئذ أن يقال‏:‏ الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال‏:‏ أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم، وجوز أبو البقاء وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر أن ‏{‏مِنْ البقر‏}‏ عطف على ‏{‏كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ على معنى وبعض البقر وجعل ‏{‏حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ تبييناً للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏ أي ما علق بظهورهما‏.‏ والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم‏.‏ وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحماً يحنث بشحم البطن فقط‏.‏ وخالفه في ذلك صاحباه فقالا يحنث بشحم الظهر أيضاً لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار‏.‏ وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال‏.‏ وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحماً وبائعه يسمى لحاماً لا شحاماً‏.‏

والاتصال وإن كان أصلاً في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والإمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة‏.‏ وللقائل بالاتصال أن يقول‏:‏ العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الحوايا بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء‏.‏ وجوز غير واحد أن يكون العطف على ‏{‏ظُهُورُهُمَا‏}‏ وأن يكون على ‏{‏شُحُومَهُمَا‏}‏ وحينئذ يكون ما ذكر محرماً وإليه ذهب بعض السلف‏.‏ وهو يعطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏ وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص، وقيل‏:‏ هو المخ ولا يقول أحد أنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضاً‏.‏ والحوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفاً لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة ألفاً ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا؛ وقيل‏:‏ جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضاً وإعلاله كما علمت، وقيل‏:‏ جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصل حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام ألفاً فصار حوايا‏.‏ وجوز الفارسي أن يكون جمعاً لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضاً‏.‏ و‏{‏أَوْ‏}‏ بمعنى الواو‏.‏ وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ وقال الزجاج‏:‏ هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏ أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا‏.‏ و‏{‏أَوْ‏}‏ بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت‏:‏ لا تطع زيداً وعمراً فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معاً فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت‏:‏ لا تطع زيداً أو عمراً أو خالداً كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحداً منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب‏.‏

واختاره العلامة الثاني وقال‏:‏ الوجه أن يقال إن كلمة ‏{‏أَوْ‏}‏ في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل‏.‏ وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال‏:‏ وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزاً فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط‏.‏ وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في ‏{‏أَوْ‏}‏ هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثنى منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم و‏{‏أَوْ‏}‏ على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الجزاء أو التحريم فهو على الأول‏:‏ نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم ‏{‏جزيناهم‏}‏ وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره‏.‏ وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والجلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشاراً به إلى المصدر غير متبوع به‏.‏ وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه ‏{‏بِبَغْيِهِمْ‏}‏ أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل‏.‏ وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن إبراهيم في «تفسيره» أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضاً ولا بعد في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم‏.‏

‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي‏.‏

وعد منها واقتصر عليه بعضهم الوعد والوعيد‏.‏ وقوى الإمام بهذه الآية «ما ذهب إليه الإمام مالك وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين، الأول‏:‏ أن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً‏.‏ والثاني‏:‏ أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال‏:‏ إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذاً وجب حمله على المخلب‏.‏ والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين، الأول‏:‏ إفادة التركيب الحصر لغة، والثاني‏:‏ أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصاً باليهود وحينئذ فما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولاً» فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ‏}‏ أي اليهود كما قال مجاهد والسدي وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكراً ولذكر المشركين بعد بعنوان الإشراك، وقيل‏:‏ الضمير للمشركين‏.‏ فالمعنى على الأول‏:‏ إن كذبك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم ‏{‏رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ‏}‏ عظيمة ‏{‏وَاسِعَةٌ‏}‏ لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ‏}‏ أي لا يدفع عذابه بالكلية ‏{‏عَنِ القوم المجرمين‏}‏ فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديداً‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال‏.‏ وقيل يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد، وقيل‏:‏ المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ‏}‏ الخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لاحق بهم ألبتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ حكاية لفن آخر من أباطيلهم والإخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏ صريح في أنه من عند الله تعالى، وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الإعجاز لكلامه وإن لم يكن الإعجاز به فقط كما في قول مضعف ‏{‏لَوْ شَاء الله‏}‏ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا شيئاً ‏{‏مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء‏}‏ لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات ‏{‏يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏ وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عز وجل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والإرادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته، وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عز وجل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى‏.‏

وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عز من قائل ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ما ذكب هؤلاء ‏{‏كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ وهم أسلافهم المشركون‏.‏ وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم‏.‏ ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء‏.‏ فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم‏:‏ إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ديناً ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم‏:‏ إن ما نرتكبه مشروع ومرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول، وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو قبيحاً‏.‏ وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي، ويجوز أيضاً أن يقال‏:‏ مقصود المشركين من قولهم ذلك رد دعوة الأنبياء عليهم السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذكور في كثير من الكتب الكلامية‏.‏

وحاصله حينئذ أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطاً بالاستطاعة فينتج أن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقاً أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب، ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة‏.‏ وسيأتي توجيه آخر إن شاء الله تعالى قريباً للآية‏.‏

وعطف ‏{‏ءابَاؤُنَا‏}‏ على الضمير المرفوع في ‏{‏أَشْرَكْنَا‏}‏ وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان، وقد فصل بلا ههنا، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئاً ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وإن لم يفصل حرف العطف‏.‏ وادعى الإمام «أن في الكلام تقديراً لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الإشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا إشكال2‏.‏

‏{‏حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا‏}‏ أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه على ما قيل إيماء إلى أن لهم عذاباً مدخراً عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء‏.‏ ‏{‏قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ‏}‏ أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم ‏{‏فَتُخْرِجُوهُ‏}‏ أي فتظهروه ‏{‏لَنَا‏}‏ على أتم وجه وأوضح بيان، وقيل‏:‏ المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما اتدعيتم أن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان، وجعل إمام الحرمين في «الإرشاد» هذا وما بعده دليلاً على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزؤن بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام حيث قرع مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق‏.‏

‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ‏}‏ أي ما تتبعون في ذلك ‏{‏إِلاَّ الظن‏}‏ الباطل الذي لا يغني من الحق شيئاً أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن ‏{‏وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ تكذبون على الله تعالى، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ‏}‏ خاصة ‏{‏الحجة البالغة‏}‏ أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه ك ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 7‏]‏، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان، وقال شيخ مشايخنا الكوراني‏:‏ ‏(‏الحجة البالغة‏)‏ إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جوداً ورحمة لا وجوباً‏.‏ وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد بها إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور، والفاء جواب شرط محذوف أي إذ ظهر أن لا حجة لكم قل فللَّه الحجة‏.‏

‏{‏فَلَوْ شَاء‏}‏ هدايتكم جميعاً ‏{‏لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك‏.‏ وقال الكوراني‏:‏ المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول‏.‏ وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشيء من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر‏.‏

وذكر ابن المنير وجهاً آخر في توجيه ما في الآية وهو «أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الإضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم ‏(‏وكذبهم‏)‏ في دعواهم عدم الإختيار لأنفسهم وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عز وجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك ‏(‏كله‏)‏ ‏(‏2‏)‏ بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون‏.‏ والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعاً بصدور الجبرية وعجزها معجزاً للمعتزلة إذ الأول‏:‏ مثبت أن للعبد اختياراً وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان‏.‏ والثاني‏:‏ مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية»، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين‏.‏

ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلِلَّهِ الحجة البالغة‏}‏ فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فللَّه الحجة‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَوْ شَاء‏}‏ الخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلاً منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضاً بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة، ثم قال‏:‏ وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النحل يجب أن يكون عندكم حقاً لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة، وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه، ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلو عن دغدغة فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ‏}‏ أي أحضروهم للشهادة هو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال‏.‏ وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال‏.‏ وعلى هذا تكون ‏{‏هَلُمَّ‏}‏ اسم فعل مطلقاً كما في «شرح التسهيل» وعليه الرضي حيث قال‏:‏ وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظراً إلى أصله‏.‏ وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس، واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر‏.‏ ودفع بما نقله الرضي عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به مافعل‏.‏ ويكون متعدياً بمعنى أحضر وائت ولازماً بمعنى أقبل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18‏]‏‏)‏‏.‏

‏{‏الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا‏}‏ وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم‏.‏ والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم وإظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على انهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم‏.‏ وهذا إشارة إلى ما حرموه من الأنعام على ما حكته الآيات السابقة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ إشارة إلى البحائر والسوائب ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ‏}‏ أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا ‏{‏فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ‏}‏ أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالرضا، وإرادة هذا المعنى من ‏(‏لا تشهد‏)‏ إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة، ومن الناس من زعم أن ضمير ‏{‏شَهِدُواْ‏}‏ للمشركين أي فإن لم يجدوا شاهداً يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد، وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فإن لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ من وضع المظهر موضع المضمر للإيماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها، والخطاب قيل لكل من يصلح له‏.‏ وقيل‏:‏ لسيد المخاطبين والمراد أمته‏.‏ ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس، وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الإقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع إنكار الآخرة ولا يخفى ما فيه ‏{‏وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي يجعلون له عديلاً أي شريكاً فهو كقوله تعالى‏:‏

‏{‏هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 100‏]‏ وقيل‏:‏ يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عز وجل، وقيل‏:‏ يعدلون بعبادتهم عنه تعالى، والجملة عطف على ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بالآيات والكفر بالآخرة والإشراك بربهم عز وجل لكن لا على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها، وقيل‏:‏ الجملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم، و‏(‏ تعال‏)‏ أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازاً، ويحتمل هنا كما قيل أن يكون على الأصل تعريضاً لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم ترقوا إلى ذروة العلم وقنة العز‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اتل‏}‏ جواب الأمر أي أن تأتوني أتل، و‏(‏ ما‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ‏}‏ إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه، والمراد الآية الدالة عليه، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم، والجملة مفعول ‏{‏اتل‏}‏ لأن التلاوة ومن باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناءً على المذهب الكوفي من أنه تحكي الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلاً ونحوه‏.‏ والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق على كل حال بحرم، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرماً على الكل كما لا يخفى‏.‏

‏{‏أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ أي من الإشراك أو شيئاً من الأشياء فشيئاً يحتمل المصدرية والمفعولية؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب ‏(‏أن لا‏)‏‏.‏ وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر ‏{‏وبالوالدين‏}‏ أي أحسنوا بهما ‏{‏إحسانا‏}‏ كاملاً لا إساءة معه‏.‏ وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللاً لهما، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عز وجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان‏.‏

وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ‏}‏ بالوأد ‏{‏خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ إملاق‏}‏ وقيل‏:‏ الخطاب في كل آية لصنف وليس خطاباً واحداً فالمخاطب بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّنْ إملاق‏}‏ من ابتلي بالفقر وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ إملاق‏}‏ من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم ههنا في قوله عز وجل ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ‏}‏ وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل‏:‏

‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ وهو كلام حسن‏.‏ وأياً ما كان فجملة ‏{‏نَحْنُ‏}‏ الخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش‏}‏ أي الزنا، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وروي ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدي، وقيل‏:‏ المراد بها المعاصي كلها‏.‏ وفي المراد بما ظهر منها وما بطن على هذا أقوال تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة، ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات، ووجه توسيط هذا النهي عن النهي بين قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقاً عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات‏.‏ وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل‏:‏ «ذاك وأد خفي» وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله‏}‏ أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمّي، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها، وذلك كما ورد في الخبر ‏"‏ بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة ‏"‏ أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلاً إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتل بأحد المذكورات‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية ‏{‏وصاكم بِهِ‏}‏ أي طلبه منكم طلباً مؤكداً‏.‏ والجملة الاسمية استئناف جىء به تجديداً للعهد وتأكيداً لإيجاب المحافظة على ما كلفوه‏.‏ وقال الإمام‏:‏ «جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة» ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم‏}‏ أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه ‏{‏إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره، وقيل‏:‏ المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد؛ والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل‏:‏ احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم بأموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ والأشد على ما قال الفراء جمع لا واحد له‏.‏ وقال بعض البصريين‏:‏ هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع شدة كنعمة وأنعم، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ إنه جمع شد بضم الشين كود واود‏.‏ وقيل‏:‏ جمع شد بفتحها‏.‏ وأياً ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع‏.‏ ومنه قول عنترة‏:‏ عهدي به شد النهار كأنما *** خضب البنان ورأسه بالعظلم

والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي وجماعة‏:‏ بلوغ الحلم‏.‏ وقيل‏:‏ أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وقال السدي‏:‏ أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر‏.‏

‏{‏وَأَوْفُوا‏}‏ أي أتموا ‏{‏الكيل‏}‏ أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول ‏{‏والميزان‏}‏ كذلك كما قال أبو البقاء وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان ‏{‏بالقسط‏}‏ أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير ‏{‏أَوْفُواْ‏}‏ أي مقسطين‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ يجوز أن يكون حالاً من المفعول أي تاماً‏.‏ ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد‏.‏ وفي «التفسير الكبير» «فإن قيل‏:‏ إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير‏؟‏ قلنا‏:‏ أمر الله تعالى المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة» فتدبر‏.‏

‏{‏لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلا ما يسعها ولا يعسر عليها‏.‏ والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجاً مع كثرة وقوعه فكأنه قيل‏:‏ عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم‏.‏ وجوز أن يكون جىء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل‏:‏ جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق‏.‏

‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ‏}‏ قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوهما ‏{‏فاعدلوا‏}‏ فيه وقولوا الحق ‏{‏وَلَوْ كَانَ‏}‏ المقول له أو عليه ‏{‏ذَا قربى‏}‏ أي صاحب قرابة منكم ‏{‏وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ‏}‏ أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم‏.‏ والجار والمجرور متعلق بما بعده، وتقديمه للاعتناء بشأنه ‏{‏ذلكم‏}‏ أي ما فصل من التكاليف الجليلة ‏{‏وصاكم بِهِ‏}‏ أمركم به أمرا مؤكدا ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ بتخفيف الذال والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد‏.‏

وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ وهذه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها‏.‏ وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان؛ قاله القطب الرازي، ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضاً فكيف ذكر من الأول‏؟‏ قلت‏:‏ أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيهاً على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر‏.‏

وقال الإمام‏:‏ السبب في ختم كل آية بما ختمت «أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ‏(‏أمور‏)‏ ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر» انتهى‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إن أكثر التكليفات الأول أُدِّي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأُخر فإن أكثرها قد أُدِّي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهراً كما في النهي فيكون تأكيد الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ هذا صراطي‏}‏ إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي، وقيل‏:‏ إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏ءانٍ‏}‏ بالكسر وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف، والباقون به مشددة‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏صراطي‏}‏ بفتح الياء، وقرىء ‏{‏وهذا صراطي‏}‏‏.‏ ‏{‏وهذا صراط رَبُّكُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏وهذا صراط رَبّكَ‏}‏ وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه ‏{‏مُّسْتَقِيماً‏}‏ لا اعوجاج فيه، ونصبه على الحال ‏{‏فاتبعوه‏}‏ أي اقتفوا أثره واعملوا به ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل‏}‏ أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية، وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد أنها البدع والشبهات ‏{‏فَتَفَرَّقَ بِكُمْ‏}‏ نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه ‏{‏عَن سَبِيلِهِ‏}‏ أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام، وقيل‏:‏ هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيل الله تعالى، وقد أخرج أحمد وجماعة عن ابن مسعود قال‏:‏ خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال‏:‏ ‏"‏ هذا سبيل الله تعالى مستقيماً ‏"‏ ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال‏:‏ ‏"‏ وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ‏"‏ ثم قرأ ‏{‏وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه‏}‏ الخ، وإنما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم أولاً لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عز وجل‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل ‏{‏وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ «ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن ‏(‏اتباع غيره من‏)‏ الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجاه النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية‏.‏ وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد» ويا لها من وصية ما أعظم شأنها، وأوضح برهانها‏.‏

وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في «الشعب» وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ‏}‏ إلى ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151 153‏]‏ وأخرج ابن حميد وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ‏"‏ ثم تلاهن إلى آخرهن ثم قال‏:‏ ‏"‏ فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه ‏"‏‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال‏:‏ سمع كعب رجلاً يقرأ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ‏}‏ الخ فقال‏:‏ والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة «بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» إلى آخر الآيات، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار‏.‏

هذا و‏(‏ أن‏)‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏(‏أن لا تشركوا‏)‏ يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية‏.‏ قال العلامة الثاني‏:‏ وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بياناً للمحرم بدلاً من ما أو عائده المحذوف‏.‏ وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على ‏(‏لا تشركوا‏)‏ وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرماً فاحتيج إلى تكلف كجعل ‏(‏لا‏)‏ مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل ‏(‏لا‏)‏ ناهية واقعة موقع الصلة لأن المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في ‏(‏لا‏)‏ معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام؛ وإن جعلت ‏(‏أن‏)‏ مفسرة و‏(‏ لا‏)‏ ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان، أحدهما‏:‏ عطف ‏{‏إِنَّ هَذَا صراطي مُسْتَقِيمًا‏}‏ على ‏(‏أن لا تشركوا‏)‏ مع أنه لا معنى لعطفه على ‏(‏أن‏)‏ المفسرة مع الفعل‏.‏ وثانيهما‏:‏ عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بياناً لتلاوة المحرمات بل الواجبات، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه، ولا سبيل حينئذٍ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت‏.‏

وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هذا صراطي‏}‏ ليس عطفاً على ‏(‏أن لا تشركوا‏)‏ بل هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام، وجاز عود ضمير ‏(‏اتبعوه‏)‏ إلى الصراط لتقدمه في اللفظ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فعلى هذا يكون ‏(‏اتبعوه‏)‏ عطفاً على ‏(‏لا تشركوا‏)‏ ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا‏:‏ ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلاً بينهما شائع في الكلام مثل ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبّرْ‏}‏ ‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 18‏]‏ فإن أبيت الجمع ألبتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقاً بمحذوف والمذكور بالفاء عطفاً عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه‏.‏

وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد ‏(‏أن‏)‏ المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرماً دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل‏:‏ أتلو ما حرم أن لا تسيؤوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف، وأما جعل الوقف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ وانتصاب ‏(‏أن لا تشركوا‏)‏ بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل ‏(‏لا‏)‏ ناهية و‏(‏ أن‏)‏ المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه ‏(‏لا‏)‏ فإنه لا يصح عطف ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ على ‏{‏تَعَالَوْاْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ ويكون ما بعده عطف عليه‏.‏ واعترض على القول «بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جداً وإلغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ثم قال‏:‏ وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما‏:‏ أنها معطوفة ‏(‏لا‏)‏ على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ‏(‏أن‏)‏ التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَتْلُ مَا حَرَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ أمرهم أولاً بأمر ترتب عليه ذكر مناه، ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح، والثاني‏:‏ أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم ‏(‏أن‏)‏ التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون ‏(‏أن‏)‏ مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى ‏{‏مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم عنه ربكم ‏(‏وما أمركم به‏)‏ ‏(‏1‏)‏، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون ‏(‏أن‏)‏ تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول‏:‏ أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً، ‏(‏و‏)‏ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرىء القيس‏:‏ لا تهلك أسى وتجمل *** ولا نعلم في هذا خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً مشهوراً» اه‏.‏ وأنت تعلم أن العطف على ‏{‏تَعَالَوْاْ‏}‏ في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن، ونقل الطبرسي جواز كون ‏(‏أن لا تشركوا‏)‏ بتقدير اللام على معنى «أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين»، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب‏}‏ كلام مسوق من جهته تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلكم وصاكم بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ بطريق الاستئناف تصديقاً له وتقريراً لمضمونه فعلنا ذلك ‏{‏ثُمَّ ءاتَيْنَا‏}‏ الخ‏.‏ وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس سره، وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏ذلكم وصاكم بِهِ‏}‏‏.‏ وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة كأنه قيل‏:‏ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام، وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏قُلْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب‏.‏ وعن أبي مسلم واستحسنه المغربي أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏ وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضاً من ذريته، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن‏.‏

وثم كما قال الفراء للترتيب الإخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت ‏(‏اليوم‏)‏ أعجب‏.‏ وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلا بد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله‏:‏ أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة، وبعضهم وجه الترتيب الإخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه باعتبار توسط جملة ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ بين المتعاطفين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ هنا بمعنى الواو، وقد جاء ذلك كثيراً في الكتاب‏.‏

‏{‏تَمَامًا‏}‏ للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماماً، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدراً لقوله‏:‏ ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل‏:‏ أتممنا النعمة إتماماً فهو كنباتاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ وأن يكون حالاً من الكتاب أي تاماً ‏{‏عَلَى الذى أَحْسَنَ‏}‏ أي ‏(‏على‏)‏ من أحسن القيام به كائناً من كان فالذي للجنس‏.‏ ويؤيده قراءة عبد الله ‏{‏عَلَى الذين أَحْسَنُواْ‏}‏ وقراءة الحسن ‏{‏عَلَى المحسنين‏}‏‏.‏ وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله‏:‏ إن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد

وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم، وعن ابن زيد أن المراد تماماً على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وظاهره أن ‏{‏الذى‏}‏ موصول حرفي، وقد قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏ وضمير ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ حينئذٍ لله تعالى، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها، وكلاهما خلاف الظاهر‏.‏ وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه السلام، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و‏{‏الذى‏}‏ وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماماً على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تاماً كاملاً على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن‏.‏

‏{‏وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء‏}‏ أي بياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه في الدين، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافاً لمن زعم ذلك، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة يوسف ‏(‏111‏)‏ عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء‏}‏ ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضاً ‏{‏وهدى‏}‏ أي دلالة إلى الحق ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ بالمكلفين‏.‏ والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية والمصدرية والحالية، والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وإيتاء الكتاب، ولا يجوز عود الضمير على ‏{‏الذى‏}‏ بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بل كان المناسب حينئذٍ أن يقال‏:‏ لعلهم يرحمون مثلاً، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل، والمراد من اللقاء قيل الجزاء، وقيل‏:‏ الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئاً‏.‏ وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏وهذا‏}‏ الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ عظيم الشأن لا يقادر قدره ‏{‏أنزلناه‏}‏ بواسطة الروح الأمين مشتملاً على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها، والجملة صفة ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏ أي كثير الخير ديناً ودنيا صفة أخرى، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضاً؛ والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره ‏{‏واتقوا‏}‏ مخالفته أو نواهيه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي لترحموا جزاء ذلك، وقيل‏:‏ المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ علة لمقدر دل عليه ‏{‏أنزلناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏]‏ المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافاً للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون مفعول ‏{‏اتقوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏]‏ وعليه الفراء، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخاً لهم على بعدهم عن السعادة، والمتبادر ما ذكر أولاً أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله‏.‏

‏{‏إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب‏}‏ الناطق بالأحكام القاطع للحجة ‏{‏على طَائِفَتَيْنِ‏}‏ جماعتين كائنتين ‏{‏مِن قَبْلِنَا‏}‏ وهما كما قال ابن عباس وغيره اليهود والنصارى، وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام‏.‏

‏{‏وَإِن كُنَّا‏}‏ إن هي المخففة من إن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر، لا ثابت ولا محذوف أي وإنه كنا‏.‏

‏{‏عَن دِرَاسَتِهِمْ‏}‏ أي قراءتهم ‏{‏لغافلين‏}‏ غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكنا أن نتلقى منها في ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد، وقيل‏:‏ تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ الخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار‏.‏ وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال‏:‏ «وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضاً عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط2‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَقُولُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏تَقُولُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 156‏]‏‏.‏ وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب ‏{‏فاتبعوه واتقوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏]‏ ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتاً أيضاً ولا يخفى موقعه‏.‏ قال القطب‏:‏ إنه تعالى خاطبهم أولاً بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو التفات في غاية الحسن‏.‏

‏{‏لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب‏}‏ كما أنزل عليهم ‏{‏لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ‏}‏ أي الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهاناً وأثقب فهماً ‏{‏فَقَدْ جَاءكُمُ‏}‏ متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ، أو إن صدقتم فيما ‏(‏كنتم‏)‏ تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم ‏{‏بَيّنَةً‏}‏ حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة ‏{‏بَيّنَةً‏}‏ ويصح تعلقه بجاءكم‏.‏ وأياً ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع‏.‏

‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ عطف على ‏{‏بَيّنَةً‏}‏ وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم، والمراد بجميع ذلك القرآن، وعبر عنه بالبينة أولاً إذاناً بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة ثانياً تنبيهاً على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة‏.‏ وفي «التفسير الكبير» «فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير‏؟‏ قلنا‏:‏ القرآن بينة فيمايعلم سمعاً وهو هدى فيما يعلم سمعاً وعقلاً فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف» ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله‏}‏ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعاراً بعلة الحكم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطاب، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلاً للأمر‏.‏ وقرىء ‏{‏كَذَّبَ‏}‏ بالتخفيف، والجار الأول‏:‏ متعلق بما عنده، والثاني‏:‏ يحتمل ذلك وهو الظاهر‏.‏ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى ‏{‏وَصَدَفَ عَنْهَا‏}‏ أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال، والفعل على الأول‏:‏ لازم وعلى الثاني‏:‏ متعد وهو الأكثر استعمالاً‏.‏

‏{‏سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنا‏}‏ وعيد لهم ببيان جزاء ‏(‏إعراضهم أو صدهم‏)‏ بحيث يفهم منه جزاء ‏(‏تكذيبهم‏)‏، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ أي العذاب السيء الشديد ‏(‏النكاية‏)‏ ‏(‏1‏)‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ‏}‏ أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف ‏(‏والصرف‏)‏ ‏(‏1‏)‏ على التجدد والاستمرار، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له‏.‏